الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الثالثة: فإن كانت من مشرك ففي الحديث: «نُهِيت عن زَبْد المشركين» يعني رِفدهم وعطاياهم.وروي عنه عليه السلام أنه قبلها كما في حديث مالك عن ثور بن زيد الدِّيليّ وغيره، فقال جماعة من العلماء بالنسخ فيهما، وقال آخرون؛ ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، والمعنى فيها: أنه كان لا يقبل هدية من يطمع بالظهور عليه وأخذ بلده ودخوله في الإسلام، وبهذه الصفة كانت حالة سليمان عليه السلام، فعن مثل هذا نهى أن تقبل هديته حملًا على الكفّ عنه؛ وهذا أحسن تأويل للعلماء في هذا؛ فإنه جمع بين الأحاديث.وقيل غير هذا.الرابعة: الهدية مندوب إليها، وهي مما تورث المودة وتذهب العداوة؛ روى مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَصافحوا يَذهب الغِلُّ وتَهادوا تحابُّوا وتذهب الشَّحناء» وروى معاوية بن الحكم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تهادوا فإنه يضعِّف الودّ ويذهب بغوائل الصَّدر» وقال الدَّارَقُطْنِيّ: تفرد به ابن بُجَير عن أبيه عن مالك، ولم يكن بالرضىّ، ولا يصح عن مالك ولا عن الزهري.وعن ابن شهاب قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا بينكم فإن الهدية تُذهب السَّخِيمة» قال ابن وهب: سألت يونس عن السَّخِيمة ما هي فقال: الغل.وهذا الحديث وصله الوقّاصي عثمان عن الزهري وهو ضعيف.وعلى الجملة: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة.ومن فضَّل الهدية مع اتباع السنة أنها تزيل حزازات النفوس، وتكسب المهدي والمهدَى إليه رنّة في اللقاء والجلوس.ولقد أحسن من قال:
آخر: الخامسة: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جلساؤكم شركاؤكم في الهدية» واختلف في معناه؛ فقيل: هو محمول على ظاهره.وقيل: يشاركهم على وجه الكرم والمروءة، فإن لم يفعل فلا يجبر عليه.وقال أبو يوسف: ذلك في الفواكه ونحوها.وقال بعضهم: هم شركاؤه في السرور لا في الهدية.والخبر محمول في أمثال أصحاب الصُّفَّة والخوانق والرّباطات؛ أما إذا كان فقيهًا من الفقهاء اختص بها فلا شركة فيها لأصحابه، فإن أشركهم فذلك كرم وجود منه.السادسة: قوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ} أي منتظرة {بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} قال قتادة: يرحمها الله أن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها؛ قد علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس.وسقطت الألف في {بِم} للفرق بين ما الخبرية وقد يجوز إثباتها؛ قال: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَني بِمَالٍ} أي جاء الرسول سليمان بالهدية قال: {أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ}.قرأ حمزة ويعقوب والأعمش: بنون واحدة مشدّدة وياء ثابتة بعدها.الباقون بنونين وهو اختيار أبي عبيد؛ لأنها في كل المصاحف بنونين.وقد روى إسحاق عن نافع أنه كان يقرأ: {أَتُمِدُّونِ} بنون واحدة مخففة بعدها ياء في اللفظ.قال ابن الأنباري: فهذه القراءة يجب فيها إثبات الياء عند الوقف، ليصح لها موافقة هجاء المصحف.والأصل في النون التشديد، فخفف التشديد من ذا الموضع كما خفف من: أشهد أنك عالم؛ وأصله: أنك عالم.وعلى هذا المعنى بنى الذي قرأ: {يُشَاقُّونِ فِيهِم} [النحل: 26]، {أَتُحَاجُّونِ فِي اللَّهِ} [الأنعام: 80].وقد قالت العرب: الرجال يضربونِ ويقصدونِ، وأصله يضربونِّي ويقصدونِّي: لأنه إدغام يضربونني ويقصدونني قال الشاعر: والأصل ترهبيني فخفف.ومعنى {أَتُمِدُّونَنِي} أتزيدونني مالًا إلى ما تشاهدونه من أموالي.قوله تعالى: {فَمَآ آتَانِي الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ} أي فما أعطاني من الإسلام والملك والنبوّة خير مما أعطاكم، فلا أفرح بالمال.و{آتَانِ} وقعت في كل المصاحف بغير ياء.وقرأ أبو عمرو ونافع وحفص: {آتَانِيَ اللَّهُ} بياء مفتوحة؛ فإذا وقفوا حذفوا.وأما يعقوب فإنه يثبتها في الوقف ويحذف في الوصل لالتقاء الساكنين.الباقون بغير ياء في الحالين.{بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} لأنكم أهل مفاخرة ومكاثرة في الدنيا.قوله تعالى: {ارجع إِلَيْهِمْ} أي قال سليمان للمنذر بن عمرو أمير الوفد؛ ارجع إليهم بهديتهم.{فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} لام القسم والنون لها لازمة.قال النحاس: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول: هي لام توكيد وكذا كان عنده أن اللامات كلها ثلاث لا غير؛ لام توكيد، ولام أمر، ولام خفض؛ وهذا قول الحذاق من النحويين؛ لأنهم يردّون الشيء إلى أصله: وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية.ومعنى {لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي لا طاقة لهم عليها.{وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ} أي من أرضهم {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}.وقيل: {مِنْهَا} أي من قرية سبأ.وقد سبق ذكر القرية في قوله: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا}.{أَذِلَّةً} قد سُلبوا ملكهم وعزّهم.{وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي مهانون أذلاء من الصّغر وهو الذل إن لم يسلموا؛ فرجع إليها رسولها فأخبرها؛ فقالت: قد عرفت أنه ليس بملك ولا طاقة لنا بقتال نبيّ من أنبياء الله.ثم أمرت بعرشها فجعل في سبعة أبيات بعضها في جوف بعض؛ في آخر قصر من سبعة قصور؛ وغلقت الأبواب، وجعلت الحرس عليه، وتوجهت إليه في اثني عشر ألف قَيْل من ملوك اليمن، تحت كل قَيْل مائة ألف.قال ابن عباس: وكان سليمان مهيبًا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه؛ فنظر ذات يوم رَهجًا قريبًا منه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: بلقيس يا نبيّ الله.فقال سليمان لجنوده وقال وهب وغيره: للجن {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}. اهـ.
|